فتح القدير
هي ثلاثون آية، وقيل تسع وعشرون آية وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن عباس قال: نزلت "والفجر" بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير وعائشة مثله. وأخرج النسائي عن جابر قال: "صلى معاذ صلاة، فجاء رجل فصلى معه فطول، فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذاً فقال: منافق، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله جئت أصلي فطول علي، فانصرفت فصليت في ناحية المسجد فعلفت ناضحي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتان أنت يا معاذ؟ أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والفجر، والليل إذا يغشى". 1- "والفجر" أقسم سبحانه بهذه الأشياء كما أقسم بغيرها من مخلوقاته. واختلف في الفجر الذي أقسم الله به هنا، فقيل هو الوقت المعروف، وسمي فجراً لأنه وقت انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم. وقال قتادة: إنه فجر أول يوم من شهر محرم، لأن منه تتفجر السنة. وقال مجاهد: يريد يوم النحر. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة.
لأن الله قرن الأيام به فقال: 2- "وليال عشر" أي ليالي عشر من ذي الحجة، وبه قال السدي والكلبي. وقيل المعنى: وصلاة الفجر أو رب الفجر. والأول أولى. وجواب هذا القسم وما بعده هو قوله: "إن ربك لبالمرصاد" كذا قال ابن الأنباري، وقيل محذوف لدلالة السياق عليه: أي ليجازين كل أحد بما عمل، أو ليعذبن، وقدره أبو حيان بما دلت عليه خاتمة السورة التي قبله: أي والفجر الخ لإيابهم إلينا وحسابهم علينا، وهذا ضعيف جداً، وأضعف منه قول من قال: إن الجواب قوله: "هل في ذلك قسم لذي حجر" وأن هل بمعنى قد، لأن هذا لا يصح أن يكون مقسماً عليه أبداً "وليال عشر" هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين. وقال الضحاك: إنها الأواخر من رمضان، وقيل العشر الأول من المحرم إلى عاشرها يوم عاشوراء. قرأ الجمهور "ليال" بالتنوين، وعشر صفة لها. وقرأ ابن عباس وليال عشر بالإضافة، قيل والمراد ليالي أيام عشر، وكان حقه على هذا أن يقال عشرة، لأن المعدود مذكر. وأجيب عنه بأنه إذا حذف المعدود جاز الوجهان.
3- "والشفع والوتر" الشفع والوتر يعمان كل الأشياء شفعها ووترها، وقيل شفع الليالي ووترها. وقال قتادة: الشفع والوتر شفع الصلاة ووترها، منه شفع ومنها وتر. وقيل الشفع يوم عرفة ويوم النحر، والوتر ليلة يوم النحر. وقال مجاهد وعطية العوفي: الشفع الخلق، والوتر الله الواحد الصمد، وبه قال محمد بن سيرين ومسروق وأبو صالح وقتادة. وقال الربيع بن أنس وأبو العالية: هي صلاة المغرب فيها ركعتان والوتر الركعة. وقال الضحاك: الشفع عشر ذي الحجة والوتر أيام منى الثلاثة، وبه قال عطاء: وقيل هما آدم وحواء، لأن آدم كان وتراً فشفع بحواء. وقيل الشفع درجات الجنة وهي ثمان، والوتر دركات النار وهي سبع، وبه قال الحسين بن الفضل. وقيل الشفع الصفا والمروة، والوتر الكعبة. وقال مقاتل: الشفع الأيام والليلالي، والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة وقال سفيان بن عيينة: الوتر هو الله سبحانه، وهو الشفع أيضاً لقوله: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم" الآية وقال الحسن: المراد بالشفع والوتر العدد كله، لأن العدد لا يخلو عنهما. وقيل الشفع مسجد مكة والمدينة، والوتر مسجد بيت القدس. وقيل الشفع حجج القرآن، والوتر الإفراد. وقيل الشفع الحيوان لأنه ذكر وأنثى، والوتر الجماد. وقيل الشفع ما سمي، والوتر ما لا يسمى. ولا يخفاك ما في غالب هذه الأقوال من السقوط البين والضعف الظاهر، والاتكال في التعيين على مجرد الرأي الزائف. والخاطر الخاطئ. والذي ينبغي التعويل عليه ويتعين المصير إليه ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلامه العرب، وهما معروفان واضحان، فالشفع عند العرب الزوج، والوتر الفرد. فالمراد بالآية إما نفس العدد أو ما يصدق عليه من المعدودات بأنه شفع أو وتر. وإذا قام دليل على تعيين شيء من المعدودات في تفسير هذه الآية، فإن كان الدليل يدل على أنه المراد نفسه دون غيره فذاك، وإن كان الدليل يدل على أنه مما تناولته هذه الآية لم يكن ذلك مانعاً من تناولها لغيره. قرأ الجمهور "والوتر" بفتح الواو. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بكسرها، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه وهما لغتان، والفتح لغة قريش وأهل الحجاز، والكسر لغة تميم. قال الأصمعي: كل فرد وتر، وأهل الحجاز يفتحون فيقولون وتر في الفرد. وحكى يونس عن ابن كثير أنه قرأ بفتح الواو وكسر التاء، فيحتمل أن تكون لغة ثالثة، ويحتمل أنه نقل كسرة الراء إلى التاء إجراء للوصل مجرى الوقف.
4- "والليل إذا يسر" قرأ الجمهور "يسر" بحذف الياء وصلاً ووقفاً اتباعاً لرسم المصحف. وقرأ نافع وأبو عمرو بحذفها في الوقف وإثباتها في الوصل. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب بإثباتها في الوصل والوقف. قال الخليل: تسقط الياء منها موافقة لرؤوس الآي. قال الزجاج: والحذف أحب إلي لأنها فاصلة والفواصل تحذف منها الياآت. قال الفراء: قد تحذف العرب الياء وتكتفي بكسر ما قبلها، وأنشد بعضهم: كفاك كف ما تليق درهما جوداً وأخرى تعط بالسيف دما ما تليق: أي ما تمسك. قال المؤرج: سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من يسر فقال: لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة، فبت على باب داره سنة فقال: الليل لا يسري، وإنما يسرى فيه، فهو مصروف عن جهته، وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه، ألا ترى إلى قوله: "وما كانت أمك بغياً" ولم يقل بغية، لأنه صرفها من باغية. وفي كلام الأخفش هذا نظر، فإن صرف الشيء عن معناه لسبب من الأسباب لا يستلزم صرف لفظه عن بعض ما يستحقه، ولو صح ذلك للزم في كل المجازات العقلية واللفظية، واللازم باطل فالملزوم مثله، والأصل ههنا إثبات الياء، لأنها لام الفعل المضارع المرفوع، ولم تحذف العلة من العلل إلا لاتباع رسم المصحف وموافقة رؤس الآي إجراء للفواصل مجرى القوافي: ومعنى "والليل إذا يسر" إذا يمضي، كقوله: "والليل إذ أدبر" "والليل إذا عسعس" وقيل معنى يسر: يسار فيه، كما يقال ليل نائم ونهار صائم، كما في قول الشاعر: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم وبهذا قال الأخفش والقتيبي وغيرهما من أهل المعاني، وبالأول قال جمهور المفسرين. وقال قتادة وأبو العالية: "والليل إذا يسر" أي جاء وأقبل. قال النخعي: أي استوى. قال عكرمة وقتادة والكلبي ومحمد بن كعب: هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله سبحانه، وقيل ليلة القدر لسراية الرحمة فيها. والراجح عدم تخصيص ليلة من الليالي دون أخرى.
5- "هل في ذلك قسم لذي حجر" هذا الاستفهام لتقرير تعظيم ما أقسم سبحانه به وتفخيمه من هذه الأمور المذكورة، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى تلك الأمور، والتذكير بتأويل المذكور: أي هل في ذلك المذكور: من الأمور التي أقسمنا بها قسم: أي مقسم به حقيق بأن تؤكد به الأخبار "لذي حجر" أي عقل ولب، فمن كان ذا عقل ولب علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء حقيق بأن يقسم به، ومثل هذا قوله: "وإنه لقسم لو تعلمون عظيم". قال الحسن "لذي حجر" أي لذي حلم. وقال أبو مالك: لذي ستر من الناس. وقال الجمهور: الحجر العقل. قال الفراء: الكل يرجع إلى معنى واحد، لذي عقل ولذي حلم ولذي ستر، الكل بمعنى العقل. وأصل الحجر المنع، يقال لمن ملك نفسه ومنعها: إنه لذو حجر، ومنه سمي الحجر لامتناعه بصلابته، ومنه حجر الحاكم على فلان: أي منعه. قال والعرب تقول: إنه لذو حجر: إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها.
ثم ذكر سبحانه على طريقه الاستشهاد ما وقع من عذابه على بعض طوائف الكفار بسبب كفرهم وعنادهم وتكذيبهم للرسل تحذيراً للكفار في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم وتخويفاً لهم أن يصيبهم ما أصابهم فقال: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد " قرأ الجمهور بتنوين "عاد" على أن يكون إرم عطف بيان لعاد، والمراد بعاد اسم أبيهم، وإرم اسم القبيلة أو بدلاً منه، وامتناع صرف إرم للتعريف والتأنيث. وقيل المراد بعاد أولاد عاد، وهم عاد الأولى، ويقال لمن بعدهم عاد الأخرى، فيكون ذكر إرم على طريقة عطف البيان أو البدل، للدلالة على أنهم عاد الأولى لا عاد الأخرى، ولا بد من تقدير مضاف على كلا القولين: أي أهل إرم، أو سبط إرم؟ فإن إرم هو جد عاد، لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقرأ الحسن وأبو العالية بإضافة عاد إلى إرم. قرأ الجمهور "إرم" بكسر الهمزة. وفتح الراء والميم. وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك أرم بفتح الهمزة والراء، وقرأ معاذ بسكون الراء تخفيفاً، وقرئ بإضافة إرم إلى ذات العماد. قال مجاهد: من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالإرم التي هي الأعلام واحدها أرم، وفي الكلام تقديم وتأخير: أي والفجر وكذا وكذا "إن ربك لبالمرصاد" ألم تر: أي ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد، وهذه الرؤية رؤية القلب، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له، وقد كان أمر عاد وثمود مشهوراً عند العرب، لأن ديارهم متصلة بديار العرب، وكانوا يسمعون من أهل الكتاب أمر فرعون. وقال مجاهد أيضاً: إرم أمة من الأمم، وقال قتادة: هي قبيلة من عاد، وقيل هما عادان، فالأولى هي إرم، ومنه قول قيس بن الرقيات: مجداً تليداً بناه أولهم أدرك عاداً وقبله إرم قال معمر: إرم إليه مجتمع عاد وثمود، وكان يقال عاد إرم وعاد ثمود، وكانت القبيلتان تنسب إلى إرم. قال أبو عبيدة: هما عادان، فالأولى إرم. ومعنى ذات العماد: ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة، كذا قال الضحاك. وقال قتادة ومجاهد: إنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم. وقال مقاتل: ذات العماد يعني طولهم، كان طول الرجل منهم اثني عشرة ذراعاً، ويقال رجل طويل العماد: أي القامة. قال أبو عبيدة: ذات العماد ذات الطول، يقال رجع معمد: إذا كان طويلاً. وقال مجاهد وقتادة: أيضاً كان عماداً لقومهم، يقال فلان عميد القوم وعمودهم: أي سيدهم. وقال ابن زيد: ذات العماد يعني إحكام البنيان بالعمد. قال في الصحاح: والعماد الأبنية الرفيعة تذكر وتؤنث، قال عمرو بن كلثوم: ونحن إذا عماد الحي خرت على الإخفاض نمنع من يلينا وقال عكرمة وسعيد المقبري: هي دمشق، ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك. وقال محمد بن كعب: هي الإسكندرية.
17- "إرم ذات العماد".
8- "التي لم يخلق مثلها في البلاد" هذه صفة لعاد: أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والشدة والقوة، وهم الذين قالوا: "من أشد منا قوة" أو صفة للقرية على قول من قال: إن إرم اسم لقريتهم أو للأرض التي كانوا فيها. والأول أولى، ويدل عليه قراءة أبي التي لم يخلق مثلهم في البلاد وقيل الإرم الهلاك. قال الضحاك إرم ذات العماد: أي أهلكهم فجعلهم رميماً، وبه قال شهر بن حوشب. وقد ذكر جماعة من المفسرين أن إرم ذات العماد اسم مدينة مبنية بالذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها، وإن حصباءها جواهر وترابها مسك، وليس بها أنيس ولا فيها ساكن من بني آدم، وإنها لا تزال تنتقل من موضع إلى موضع، فتارة تكون باليمن، وتارة تكون بالشام، وتارة تكون بالعراق، وتارة تكون بسائر البلاد، وهذا كذب بحت لا ينفق على من له أدنى تميز. وزاد الثعلبي في تفسيره فقال: إن عبد الله بن قلابة في زمان معاوية دخل هذه المدينة، وهذا كذب على كذب وافتراء على افتراء، وقد أصيب الإسلام وأهله بداهية دهياء وفاقرة عظمى ورزية كبرى من مثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذي يجترئون على الكذب، تارة على بني إسرائيل، وتارة على الأنبياء، وتارة على الصالحين، وتارة على رب العالمين، وتضاعف هذا الشر وزاد كثرة بتصدر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها من موضوعها للتصنيف والتفسير للكتاب العزيز، فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة والأقاصيص المنحولة والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه، فحرفوا وغيروا وبدلوا. ومن أراد أن يقف على بعض ما ذكرنا فلينظر في كتابي الذين سميته الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة.
ثم عطف سبحانه القبيلة الآخرة، وهي ثمود على قبيلة عاد فقال: 9- "وثمود الذين جابوا الصخر بالواد" وهم قوم صالح سموا باسم جدهم ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، ومعنى جابوا الصخر: قطعوه، والجوب القطع، ومنه جاب البلاد: إذا قطعها، ومنه سمي جيب القميص لأنه جيب: أي قطع. قال المفسرون: أول من نحت الجبال. والصخور ثمود، فبنوا من المدائن ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة، ومنه قوله سبحانه: " ينحتون من الجبال بيوتا آمنين " وكانواينحتون الجبال وينقبونها ويجعلون تلك الأنقاب بيوتاً يسكنون فيها، وقوله: "بالواد" متعلق بجابوا، أو بمحذوف على أنه حال من الصخر، وهو وادي القرى. قرأ الجمهور "ثمود" بمنع الصرف على أنه اسم للقبيلة، ففيه التأنيث والتعريف. وقرأ يحيى بن وثاب بالصرف على أنه اسم لأبيها. وقرأ الجمهور أيضاً "بالواد" بحذف الياء وصلاً ووقفاً اتباعاً لرسم المصحف. وقرأ ابن كثير بإثباتها فيهما. وقرأ قنبل في رواية عنه بإثباتها في الوصل دون الوقف.
10- "وفرعون ذي الأوتاد" أي ذو الجنود الذين لهم خيام كثيرة يشدونها بالأوتاد، أو جعل الجنود أنفسهم أوتاداً لأنهم يشدون الملك كما تشد الأوتاد الخيام، وقيل كان له أوتاد يعذب الناس بها ويشدهم إليها. وقد تقدم بيان هذا في سورة ص.
11- "الذين طغوا في البلاد" الموصول صفة لعاد وثمود وفرعون: أي طغت كل طائفة منهم في بلادهم وتمردت وعتت، والطغيان مجاوزة الحد.
12- "فأكثروا فيها الفساد" بالكفر ومعاصي الله والجور على عباده، ويجوز أن يكون الموصول في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هم الذين طغوا، أو في محل نصب على الذم.
13- "فصب عليهم ربك سوط عذاب" أي أفرغ عليهم وألقى على تلك الطوائف سوط عذاب، وهو ما عذبهم به. قال الزجاج: جعل صوته الذي ضربهم به العذاب، يقال: صب على فلان خلعة: أي ألقاها عليه، ومنه قول النابغة: فصب عليه الله أحســن صبغـة وكــان لـــه بين الــبرية نـــاصر ومنه قول الآخر: ألم تر أن الله أظــهـــر ديــــنــه وصب على الكفار سوط عذاب ومعنى [سوط] عذاب: نصيب عذاب، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم هو بالنسبة إلى ما أعده لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به. وقيل ذكر السوط للدلالة على شدة ما نزل بهم، وكان السوط عندهم هو نهاية ما يعذب به. قال الفراء: هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب، وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به، فجرى لكل عذاب إذا كان فيه عندهم غاية العذاب. وقيل معناه: عذاب يخالط اللحم والدم، من قولهم ساطه يسوطه سوطأ: أي خلطه، فالسوط خلط الشيء بعضه ببعض، ومنه قول كعب بن زهير: لكنها خلة قد سيط من دمهـا فجــع وولع وإخلاف وتبديل وقال الآخر: أحارث إنا لو تساط دماؤنــا تزايلن حـتى لا يمس دم دمــا وقال آخر: فسطها ذميم الرأي غير موفق فلــست على تسويطهـا بمعان
14- "إن ربك لبالمرصاد" قد قدمنا قول من قال إن هذا جواب القسم. والأولى أن الجواب محذوف، وهذه الجملة تعليل لما قبلها، وفيها إرشاد إلى أن كفار قومه صلى الله عليه وسلم سيصيبهم ما أصاب أولئك الكفار، ومعنى بالمرصاد: أنه يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه عليه بالخير خيراً وبالشر شراً. قال الحسن وعكرمة: أي عليه طريق العباد لا يفوته أحد، والرصد والمرصاد: الطريق. وقد تقدم بيانه في سورة براءة، وتقدم أيضاً عند قوله: "إن جهنم كانت مرصاداً". وقد أخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "والفجر" قال: فجر النهار. وأخرج ابن جرير عنه قال: يعني صلاة الفجر. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب وابن عساكر عنه أيضاً في قوله: "والفجر" قال: هو المحرم فجر السنة، وقد ورد في فضل صوم شهر محرم أحاديث صحيحة، ولكنها لا تدل على أنه المراد بالآية لا مطابقة ولا تضمناً ولا التزاماً. وأخرج أحمد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر " قال: إن العشر عشر الأضحى، والوتر: يوم عرفة، والشفع: يوم النحر. وفي لفظ: هي ليالي من ذي الحجة". وأخرج عبد بن حميد عن طلحة بن عبد الله أنه دخل على ابن عمر هو وأبو سلمة بن عبد الرحمن، فدعاهم ابن عمر إلى الغداء يوم عرفة، فقال أبو سلمة: أليس هذه الليالي العشر التي ذكرها الله في القرآن؟ فقال ابن عمر: وما يدريك؟ قال: ما أشك، قال: بلى فانشكك. وقد ورد في فضل هذه العشر أحاديث، وليس فيها ما يدل على أنها المرادة بما في القرآن هنا بوجه من الوجوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وليال عشر" قال: هي العشر الأواخر من رمضان. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه عن عمران بن حصين "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر، فقال: هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر"، وفي إسناده رجل مجهول، وهو الراوي له عن عمران بن حصين. وقد روي عن عمران بن عصام على عمران بن حصين بإسقاط الرجل المجهول. وقال الترمذي بعد إخراجه بالإسناد الذي فيه الرجل المجهول: هو حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث قتادة. قال ابن كثير: وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه، والله أعلم. قال: ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر. وقد أخرج هذا الحديث موقوفاً على عمران بن حصين عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير، فهذا يقوي ما قاله ابن كثير. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: "والشفع والوتر" فقال: كل شيء شفع فهو اثنان، والوتر واحد. وأخرج الطبراني وابن مردويه، قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه سئل عن الشفع والوتر فقال: يومان وليلة، يوم عرفة، ويوم النحر، والوتر ليلة النحر ليلة جمع". وأخرج ابن جرير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشفع اليومان، والوتر اليوم الثالث". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير أنه سئل عن الشفع والوتر فقال: الشفع قول الله: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" والوتر اليوم الثالث. وفي لفظ: الوتر أوسط أيام التشريق. وأخرج عبد بن حيمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قال: الشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة. وأخرج ابن جرير عنه "والليل إذا يسر" قال: إذا ذهب. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ "والفجر" إلى قوله: "إذا يسر" قال: هذا قسم على إن ربك بالمرصاد. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس في قوله: "قسم لذي حجر" قال: لذي حجى وعقل ونهى. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: " بعاد * إرم " قال: يعني بالإرم الهالك، ألا ترى أنك تقول أرم بنو فلان "ذات العماد" يعني طولهم مثل العماد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن المقدام بن معدي كرب "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر "إرم ذات العماد" فقال: كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم". وفي إسناده رجل مجهول لأن معاوية بن صالح رواه عمن حدثه عن المقدام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "جابوا الصخر بالواد" قال: خرقوها. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً "وفرعون ذي الأوتاد" قال: الأوتاد: الجنود الذي يشدون له أمره. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله: "ذي الأوتاد" قال: وتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "إن ربك لبالمرصاد" قال: يسمع ويرى. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله: "إن ربك لبالمرصاد" قال: من وراء الصراط جسور: جسر عليه الأمانة، وجسر عليه الرحم، وجسر عليه الرب عز وجل.
لما ذكر سبحانه أنه بالمرصاد ذكر ما يدل على اختلاف أحوال عباده عند إصابة الخير وعند إصابة الشر، وأن مطمح أنظارهم ومعظم مقاصدهم هو الدنيا فقال: 15- "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه" أي امتحنه واختبره بالنعم "فأكرمه ونعمه" أي أكرمه بالمال ووسع عليه رزقه "فيقول ربي أكرمن" فرحاً بما نال وسروراً بما أعطي، غير شاكر لله على ذلك ولا خاطر بباله أن ذلك امتحان له من ربه واختبار لحاله وكشف لما يشتمل عليه من الصبر والجزع والشكر للنعمة وكفرانها، وما في قوله: "إذا ما" زائدة، وقوله: "فأكرمه ونعمه" تفسير للابتلاء ومعنى "أكرمن" أي فضلني بما أعطاني من المال وأسبغه علي من النعم لمزيد استحقاقي لذلك وكوني موضعاً له، والإنسان مبتدأ، وخبره فيقول ربي أكرمن ودخلت الفاء فيه لتضمن أما معنى الشرط والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر وإن تقدم لفظاً فهو مؤخر في المعنى: أي فأما الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام. قال الكلبي: الإنسان هو الكافر أبي بن خلف. وقال مقاتل: نزلت في أمية بن خلف، وقيل نزلت في عتبة بن ربيعة وأبي حذيفة بن المغيرة.
16- "وأما إذا ما ابتلاه" أي اختبره وعامله معاملة من يختبره "فقدر عليه رزقه" أي ضيقه ولم يوسعه له، ولا بسط له فيه "فيقول ربي أهانن" أي أولاني هواناً، وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، فأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا والتوسيع في متاعها، ولا إهانة عنده إلا فوتها وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها، فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته ويوفقه لعمل الآخرة، ويحتمل أن يراد الإنسان على العموم لعدم تيقظه أن ما صار إليه من الخير وما أصيب به من الشر في الدنيا ليس إلا للاختيار والامتحان، وأن الدنيا بأسرها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تعدل جناح بعوضة ما سقى الكافر منا شربة ماء. قرأ نافع بإثبات الياء في "أكرمن" و "أهانن" وصلاً وحذفهما وقفاً، وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه وابن محيصن ويعقوب بإثباتهما وصلاً ووقفاً، وقرأ الباقون بحذفهما في الوصل والوقف اتباعاً لرسم المصحف ولموافقة رؤوس الآي، والأصل إثباتها لأنها اسم، ومن الحذف قول الشاعر: ومن كائح ظاهر عمره إذا ما انتصبت له أنكرن أي أنكرني. وقرأ الجمهور "فقدر" بالتخفيف، وقرأ ابن عامر بالتشديد، وهما لغتان. وقرأ الحميان وأبو عمرو "ربي" بفتح الياء في الموضعين وأسكنها الباقون.
وقوله: 17- "كلا" ردع للإنسان القائل في الحالتين ما قال وزجر له، فإن الله سبحانه قد يوسع الرزق ويبسط النعم للإنسان لا لكرامته، ويضيقه عليه لا لإهانته، بل للاختبار والامتحان كما تقدم. قال الفراء: كلا في هذا الموضع بمعنى أنه لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد الله على الغنى والفقر. ثم انتقل سبحانه من بيان سوء أقوال الإنسان إلى بيان سوء أفعاله فقال: "بل لا تكرمون اليتيم" والالتفات إلى الخطاب لقصد التوبيخ والتقريع على قراءة الجمهور بالفوقية. وقرأ الجمهور " تحاضون " و"تأكلون" و"تحبون" بالفوقية على الخطاب فيها. وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالتحتية فيها، والجمع في هذه الأفعال باعتبار معنى الإنسان، لأن المراد به الجنس: أي بل لكم أفعال هي أقبح مما ذكر، وهي أنكم تتركون إكرام اليتيم فتأكلون ماله وتمنعونه من فضل أموالكم. قال مقاتل: نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيماً في حجر أمية بن خلف.
18- " ولا تحاضون على طعام المسكين " قرأ الجمهور " تحاضون " من حضة على كذا: أي أغراه به، ومفعوله محذوف: أي لا تحضون أنفسكم، أو لا يحض بعضكم بعضاً على ذلك ولا يأمر به ولا يرشد إليه، وقرأ الكوفيون "تحاضون" بفتح التاء والحاء بعدها ألف، وأصله تتحاضون، فحذف إحدى التاءين: أي لا يحض بعضكم بعضاً. وقرأ الكسائي في رواية عنه والسلمي "تحاضون" بضم التاء من الحض، وهو الحث، وقوله: "على طعام المسكين" متعلق بتحضون، وهو إما اسم مصدر: أي على إطعام المسكين، أو اسم للمطعوم، ويكون على حذف مضاف: أي على بذل طعام المسكين، أو على إعطاء طعام المسكين.
19- "وتأكلون التراث" أصله الوراث، فأبدلت التاء من الواو المضمومة، كما في تجاه ووجاه، والمراد به أموال اليتامى الذين يرثونه من قراباتهم، وكذلك أموال النساء، وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أموالهم "أكلاً لما" أي أكلاً شديداً، وقيل معنى لما جمعا، من قولهم: لممت الطعام: إذا أكلته جميعاً. قال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب اليتيم، وكذا قال أبو عبيدة. وأصل اللم في كلام العرب: الجمع، يقال لممت الشيء ألمه لماً: جمعته، ومنه قولهم: لم الله شعته: أي جمع ما تفرق من أموره، ومنه قول النابغة: ولست بمستبق أخاً لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب قال الليث: اللم الجمع الشديد، ومنه حجر ملموم، وكتيبة ملمومة، والآكل يلم الثريد فيجمعه ثم يأكله. وقال مجاهد: يسفه سفاً. وقال ابن زيد: هو إذا أكل ماله ألم بمال غيره فأكله ولا يفكر فيما أكل من خبيث وطيب.
20- "وتحبون المال حباً جماً" أي حباً كثيراً، والجم الكثير، يقال جم الماء في الحوض: إذا كثر واجتمع، والجمة: المكان الذي يجتمع فيه الماء.
ثم كرر سبحانه الردع لهم والزجر فقال: 21- "كلا" أي ما هكذا ينبغي أن يكون عملكم. ثم استأنف سبحانه فقال: "إذا دكت الأرض دكاً دكاً" وفيه وعيد لهم بعد الردع والزجر، والدك: الكسر والدق، والمعنى هنا: أنها زلزلت وحركت تحريكاً بعد تحريك. قال ابن قتيبة: دكت جبالها حتى استوت. قال الزجاج: أي تزلزلت فدك بعضها بعضاً. قال المبرد: أي بسطت وذهب ارتفاعها. قال والدك: حط المرتفع بالبسط، وقد تقدم الكلام على الدك في سورة الأعراف، وفي سورة الأحقاف، والمعنى: أنها دكت مرة بعد أخرى، وانتصاب دكاً الأول على أنه مصدر مؤكد للفعل، ودكا الثاني تأكيد الأول، كذا قال ابن عصفور. ويجوز أن يكون النصب على الحال: أي حال كونها مدكوكة مرة بعد مرة، كما يقال: علمته الحساب باباً باباً، وعلمته الخط حرفاً حرفاً، والمعنى: أنه كرر الدك عليها حتى صارت هباءً منبئاً.
22- "وجاء ربك" أي جاء أمره وقضاؤه وظهرت آياته، وقيل المعنى: أنها زالت الشبه في ذلك اليوم وظهرت المعارف وصارت ضرورية كما يزول الشك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه، وقيل جاء قهر بك وسلطانه وانفراده بالأمر والتدبير من دون أن يجعل إلى أحد من عباده شيئاً من ذلك "والملك صفاً صفاً" انتصاب صفاً صفاً على الحال: أي مصطفين، أو ذي صفوف. قال عطاء: يريد صفوف الملائكة، وأهل كل سماء صف على حدة. قال الضحاك: أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفاً محيطين بالأرض ومن فيها، فيكونون سبعة صفوف.
23- "وجيء يومئذ بجهنم" يومئذ منصوب بجيء، والقائم مقام الفاعل بجهنم، وجوز مكي أن يكون يومئذ هو القائم مقام الفاعل، وليس بذاك. قال الواحدي: قال جماعة من المفسرين: جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول يا رب نفسي نفسي. وسيأتي الذي هذا نقله عن جماعة المفسرين مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله "يومئذ يتذكر الإنسان" يومئذ هذا بدل من يومئذ الذي قبله: أي يوم جيء بجهنم يتذكر الإنسان. أي يتعظ ويذكر ما فرط منه ويندم على ما قدمه في الدنيا من الكفر والمعاصي. وقيل إن قوله: يومئذ الثاني بدل من قوله: إذا دكت والعامل فيهما هو قوله: يتذكر الإنسان "وأنى له الذكرى" أي ومن أين له التذكر والاتعاظ، وقيل هو على حذف مضاف: أي ومن أين له منفعة الذكرى. قال الزجاج: يظهر التوبة ومن أين التوبة؟.